سورة الأعراف - تفسير تفسير ابن كثير

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


{قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)}
يقول تعالى مخاطبًا لإبليس بأمر قدري كوني: {فَاهْبِطْ مِنْهَا} أي: بسبب عصيانك لأمري، وخروجك عن طاعتي، فما يكون لك أن تتكبر فيها.
قال كثير من المفسرين: الضمير عائد إلى الجنة، ويحتمل أن يكون عائدًا إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى.
{فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ} أي: الذليلين الحقيرين، معاملة له بنقيض قصده، مكافأة لمراده بضده، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين، قال: {أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِين} أجابه تعالى إلى ما سأل، لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع، ولا مُعَقِّبَ لحكمه، وهو سريع الحساب.


{قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)}
يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس {إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} واستوثق إبليس بذلك، أخذ في المعاندة والتمرد، فقال: {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: كما أغويتني.
قال ابن عباس: كما أضللتني.
وقال غيره: كما أهلكتني لأقعدن لعبادك- الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه- على {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} أي: طريق الحق وسبيل النجاة، ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي.
وقال بعض النحاة: الباء هاهنا قسمية، كأنه يقول: فبأغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم.
قال مجاهد: {صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} يعني: الحق.
وقال محمد بن سوقة، عن عون بن عبد الله: يعني طريق مكة.
قال ابن جرير: والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك كله.
قلت: لما روى الإمام أحمد:
حدثنا هاشم بن القاسم، حدثنا أبو عَقِيل- يعني الثقفي عبد الله بن عقيل- حدثنا موسى بن المسيب، أخبرني سالم بن أبي الجَعْد عن سَبْرَة بن أبي فَاكِه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك؟». قال: «فعصاه وأسلم». قال: «وقعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتدع أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطّوَل؟ فعصاه وهاجر، ثم قعد له بطريق الجهاد، وهو جهاد النفس والمال، فقال: تقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال؟». قال: «فعصاه، فجاهد». قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقًا على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقا على الله، عز وجل، أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقا على الله أن يدخله الجنة، أو وَقَصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة».
وقوله: {ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} أشككهم في آخرتهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أرغبهم في دنياهم {وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ} أشبَه عليهم أمر دينهم {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} أشهي لهم المعاصي.
وقال علي بن طلحة- في رواية- والعَوْفي، كلاهما عن ابن عباس: أما {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} فمن قبل دنياهم، وأما {مِنْ خَلْفِهِمْ} فأمر آخرتهم، وأما {عَنْ أَيْمَانِهِمْ} فمن قِبَل حسناتهم، وأما {عَنْ شَمَائِلِهِمْ} فمن قبل سيئاتهم.
وقال سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة: أتاهم {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} من أمر الدنيا فزيَّنها لهم ودعاهم إليها و{عَنْ أَيْمَانِهِم} من قبل حسناتهم بَطَّاهم عنها {وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ} زين لهم السيئات والمعاصي، ودعاهم إليها، وأمرهم بها. آتاك يا ابن آدم من كل وجه، غير أنه لم يأتك من فوقك، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله.
وكذا رُوي عن إبراهيم النَّخَعي، والحكم بن عتيبة والسدي، وابن جرير إلا أنهم قالوا: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} الدنيا {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} الآخرة.
وقال مجاهد: من بين أيديهم وعن أيمانهم: حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم: حيث لا يبصرون.
واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر، فالخير يصدهم عنه، والشر يُحببه لهم.
وقال الحكم بن أبان، عن عِكْرِمة، عن ابن عباس في قوله: {ثمَُ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وِعَنْ شَمَائِلِهِمْ} ولم يقل: من فوقهم؛ لأن الرحمة تنزل من فوقهم.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} قال: موحدين.
وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم، وقد وافق في هذا الواقع، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 20، 21].
ولهذا ورد في الحديث الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان من جهاته كلها، كما قال الحافظ أبو بكر البزار في مسنده:
حدثنا نَصْر بن علي، حدثنا عمرو بن مُجَمِّع، عن يونس بن خَبَّاب، عن ابن جُبَيْر بن مُطْعِم- يعني نافع بن جبير- عن ابن عباس- وحدثنا عمر بن الخطاب- يعني السجستاني- حدثنا عبد الله بن جعفر، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسَةَ، عن يونس بن خباب- عن ابن جبير بن مطعم- عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي، وأهلي ومالي، اللهم استر عَوْرَتي، وآمن رَوْعَتِي واحفظني من بين يدي ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فوقي، وأعوذ بك اللهم أن أُغْتَال مِنْ تَحْتِي».
تفرد به البزار وحسنه.
وقال الإمام أحمد: حدثنا وَكِيع، حدثنا عبادة بن مسلم الفزاري، حدثني جُبَير بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم، سمعت عبد الله بن عمر يقول: لم يكن رسول الله يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي: «اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي، وآمن رَوْعاتي، اللهم احفظني من بين يديّ ومن خلفي، وعن يميني وعن شمالي، ومن فَوْقِي، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي». قال وكيع: يعني الخسف.
ورواه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن حِبَّان، والحاكم من حديث عبادة بن مسلم، به وقال الحاكم: صحيح الإسناد.


{قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)}
أكد تعالى عليه اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا}
قال ابن جرير: أما المذؤوُم فهو المعيب، والذّأم غير مشدَّد: العيب. يقال: ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم. ويتركون الهمز فيقولون: ذمْته أذيمه ذيما وذَاما، والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم.
قال: والمدحور: المُقْصَى. وهو المبعد المطرود.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ما نعرف المذءوم والمذموم إلا واحدًا.
وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس: {اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا} قال: مقيتا.
وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: صغيرا مقيتا.
وقال السدي: مقيتا مطرودا.
وقال قتادة: لعينا مقيتا.
وقال مجاهد: منفيًا مطرودًا.
وقال الربيع بن أنس: مذؤوما: منفيا، والمدحور: المصغر.
وقوله تعالى: {لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ} كقوله {قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا * وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأمْوَالِ وَالأولادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلا} [الإسراء: 63- 65].

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8